Abstract
ليست "العولميات" صناعتي ولا "المستقبليات" هوايتي، وإنما صناعتي وهوايتي الأخلاقيات، وهي حاضرة بقوة فيهما معا، وهذا الحضور هو وحده الذي يعنيني هاهنا، لا سيما وأن الأخلاق هي الشرط الذي لا يستقيم بدونه شيء، لا عولمة ولا مستقبل ولا غيرهما: وحسبي الإشارة إلى أن ما أريق من مداد وسيق من كلام عن "العولمة" في مختلف بقاع العالم، على قصر أمدها، لم يسبق له نظير، حتى كأن كلماتها لا تنفد وحركاتها لا تنتهي؛ ولولا أني خشيت أن أخل بواجبي في تدارك نقص شنيع شاب ما كتب عنها باللسان العربي، لما اشتغلت بهذا الموضوع لفرط نفوري مما يُملَى عليّ ويندفع فيه الناس، وشدة عزوفي عما لا يصدر عني وأتفرد به، كأني أتوجس من ورائه كيدَ عقول ماكرة وتآمر إرادات خفية؛ وليس هذا النقص الشنيع إلا تناسي التقويم الأخلاقي لهذه الظاهرة الهائلة، اللهم إلا ما كان من إشارات هنا وهناك تَرِد في سياق تحليل اجتماعي أو ثقافي لها أو في سياق مقارنة بينها وبين الإسلام؛ وأريد هنا أن أشتغل بجانب من هذا التقويم الأخلاقي، عسى أن ينفتح لي فضاء فكري إسلامي يتسع للإشكالات الأخلاقية للعولمة.
ما هي العولمة في روحها؟
في البدء، أحتاج إلى وضع تعريف للعولمة يُقرّب معناها على أساسه أباشر هذا التقويم الأخلاقي، لكني أريد أن أمهد له باطلاعكم على بعض المبادئ التي آخذ بها في عموم تفكراتي -أو تأملاتي- في موضوع الأخلاق، وأذكرها لكم مطبَّقةً على العولمة، وهي أربعة:
مبدأ عموم الأخلاق: مقتضاه أن كل الأفعال التي يقوم بها الإنسان، كائنة ما كانت، هي في حقيقتها، أفعال خُلُقية، ذلك أن الغرض من كل فعل يصدر عنه هو أن يحقق به إنسانيته، فيرفعها درجة أو يخفِضها درجة؛ وتحقيق الإنسانية، رفعا لها أو خفضا، هو بالذات ما يُسمّى في الاصطلاح "أخلاقية" أو "تخلّقاً"؛ وعلى هذا، فكل فعل يأتي به الإنسان يكون سببا في تخلقه، على هذا التخلق قد يزيد أو ينقص بحسب طبيعة هذا الفعل؛ ومن هذه الأفعال، على سبيل المثال، ما يقوم به أرباب العولمة، فهم، على ما يظنون، يسعون إلى تحقيق مزيد التقدم للإنسانية؛ والتقدم هو عبارة عن الانتقال من حال إلى حال أفضل منه، فيكون تخليقا.
مبدأ الهمة الإنسانية: مقتضاه أن الإنسان بعزيمته أقوى من الأمر الواقع وأصلب من حتمية الحدث، لأن الواقع القائم لا يستنفد أبداً الإمكان الذي في يد الإنسان ولا أن الحتمية المنسوبة إلى التاريخ تفوق طاقته؛ فمثلاً إذا قيل بأن العولمة أمر محتوم لا مفر لسكان العالم من احتماله، قلنا بأن الإنسان، متى استنهض همته، أضحى بمقدوره أن يدفع عنه هذا الأمر أو يغير مجراه بوجه من الوجوه، وإلا فلا أقل من أن يتعامل معه بوصفه خياراً حضاريا غير ملزم له في كليته.
مبدأ التحدي المناسب: مقتضاه أن الإنسان يلقى في كل زمان من التحديات ما يناسب قدره وطاقته، مع العلم بأن لكل زمان نموذجه البشري؛ فإذا اختلفت التحديات باختلاف الأزمنة، فإنها لا تختلف من حيث تناسبها مع أقدار النماذج البشرية المقارنة لهذه ...
للحصول على كامل المقالة مجانا يرجى النّقر على ملف ال PDF في اعلى يمين الصفحة.
When an article is accepted for publication, copyrights of the publication are transferred from the author to the Journal and reserved for the Publisher.